أبو الفتوح عبد الله التليدي
من كتاب "عبد الله التليدي : العلامة المربي والمحدث الأثري" للأستاذ الحسين مولاي هشام اشبوكي.
بسم الله الرحمن الرحيم
قد نشرت لي دار القلم كتابي "عبد الله التليدي : العلامة المربي والمحدث الأثري"، وكنت أشرت في مقدمة الكتاب أن هذا المجهود المتواضع هو اختصار لكتابي الذي عنونته بأنيس دربي وهداية ربي لسيرة الشريف والمحدث المربي سيدي عبد الله التليدي حفظه الله".
وأود من خلال هذه الحلقات المتتالية في منتديات الغريب الحبيبة أن أنشر بعضا من فقرات هذا الكتاب نظرا لأهميتها، ولأتمكن من الرد على كل من له سؤال أو استفسار حول حياة شيخنا حفظه الله ومنهجه الحديثي والروحي..
... فترة ما قبل ولادة شيخنا حفظه الله ...
روى البخاري ومسلم كلاهما في الفتن عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله .
ورويا أيضا ومعهما الدارمي والحديث متواتر عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يزال هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة .
قد مر بنا في الفقرات الماضية كيف أصبح المغرب عرضة للطالب من الأجانب المستعمرين حتى سلم مقاليده ملك خائن مستسلم .
وسنفرد الحديث هنا على الجهة الشمالية من المغرب التي منها كانت أسرة آل التليدي أصل شيخنا سيدي عبد الله قدس الله سره .
ما زلنا مع الشريف الريسوني الذي ترك بصماته في تاريخ ما قبل الاستعمار وما بعده . ففور اعتلاء عبد الحفيظ عرش أخيه المخلوع ندب الشريف الجبلي مولاي أحمد الريسوني لتأييده ومبايعته فعينه السلطان الجديد حاكما على منطقته الجبلية بشروط نذكر منها تنازله عن الحماية الأجنبية الإنجليزية .
استطاع الريسوني في العهد الحفيظي أن يضبط أمر القبائل التي تولى حكمها خلال مدة أربع سنوات فصارت السبل آمنة وقلت جرائم قطع الطرق والاعتداء على الأموال وانتشرت هيبته نتيجة الخوف من بطشه .
لكن بعدما وقعت الحماية تحول الشريف الريسوني إلى التمرد مع حركات التحرر والمقاومة في دار بن قريش التي عرفت التحاما قبائليا في جهة الشمال منقطع النظير مقارنة مع باقي مناطق المغرب .
مدشر دار بن قريش الحزمري أصبح رباطا جهاديا إلى جانب مدشر أبي ريان الودراسي ومدشر صدينة الحوزي حوصرت بسببها مدينة تطوان وقطعت الطرق الاستعمارية ونهبت قوافلها .
في هذه الفترة كانت مدينة طنجة تعيش حالة استثناء بوجود الشيخ البركة سيدي محمد بن الصديق رحمه الله على ربوعها الطيبة مجاهدا ومعلما ومربيا .
هذه المعلمة التاريخية الخالدة هي التي سينتمي إليها فيما بعد شيخنا سيدي عبد الله قدس الله سره وسيحمل عن طريق الابن الأكبر سيدي أحمد نور الله ضريحه قبسا من قبسات تربيتها وجهادها ضد الاستعمار الكافر .
فقد كانت الأسرة الصديقية بعد الأسرة الكتانية الأسرة القائمة بالقسط بين المسلمين المغاربة في شمال المغرب وعروسه طنجة .
ومما يؤثر عن سيدي محمد بن الصديق رحمه الله أنه كان لا يخاف من الاستعمار كيفما كان لونه وأسلوب تعامله، محذرا في خطبه التي كان يلقيها بالزاوية الناصرية من مغبة الركون إلى الذين ظلموا من الكفار وغيرهم ممن تشبهوا بهم وتغربوا بأفكارهم وتمذهبوا في مذاهبهم الباطلة .
وبعدما شرع المستعمر الفرنسي في بناء مدرسة غينيول لتعليم اللغة الفرنسية شن العارف بالله سيدي محمد قدس الله سره حربا ضروسا على المدارس النصرانية بالخطابة والدروس المتاحة في المناسبات المتعددة ومنازل الأعيان من أهل طنجة .
حتى إن سفير فرنسا في المغرب اغتاظ لذلك واحتد غضبه واشتد، وأمر أذنابه بمطاردة الشيخ الصديقي وعزله عن الخطبة .. فلما شاع الخبر في الناس بأسرع من لمح البصر اجتمعوا وتوجهوا إلى الباشا يتوسطهم الشيخ، فلما وصلوا إلى المحكمة شرعوا في قراءة سورة الفتح بلسان واحد رافعين بها أصواتهم، فارتجت المحكمة ودهش الباشا وبقي في انتظارهم إلى أن ختموا السورة، فأعلموا الباشا بأن عزل الشيخ عن الخطبة هو عزل لهم وأن فرنسا اللعينة تتدخل فيما ليس هو من شأنها .. .
ومن الوقائع السياسية العجيبة للشيخ سيدي محمد بن الصديق رحمه الله أنه رفض مقابلة السلطان عبد الحفيظ العلوي الذي تمت معاهدة احتلال المغرب مع دولة فرنسا في عهده المشؤوم .
تنازل هذا الملك بعد توقيع هذه المعاهدة لأخيه يوسف ليسافر بعد ذلك إلى الحجاز حيث التقى بالمحدث الرباني سيدي محمد بن جعفر الكتاني وأظهر له من الأدب والتواضع ما أغره به .. فلما عزم عبد الحفيظ على الرجوع إلى المغرب طلب من الشيخ الكتاني رحمه الله أن يرشده إلى عالم يقتدى به فدله على الشيخ سيدي محمد بن الصديق بطنجة .
أرسل الشيخ الكتاني إلى الشيخ الصديقي رسالة يطلب منه قبول زيارة عبد الحفيظ له وملازمته والانتفاع بصحبته فرفض الشيخ على التو الرسالة والطلب معللا رفضه هذا بقوله : لا أجتمع بمن سلم المغرب إلى فرنسا وقتل سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني ظلما ولو فعل ما فعل .
لم يكن لينسى سيدي محمد بن الصديق الواقعة المرة من تاريخ الملك الجبار عبد الحفيظ العلوي، الواقعة التي أودت بحياة الشريف الرباني والعالم الصمداني سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله .
أما التاريخ المعاصر فلا نجده يذكر الجريمة الشنعاء التي تلبس بها عبد الحفيظ وكان ضحيته فيها عالم وقور يشد إليه الرحال للتربية والتعلم والتبرك .
وجدت مكتوبا في مخطوط سيدي لحسن بن أحمد الأنجري رحمه الله أحد الفقراء الصديقيين الذين لازموا المدرسة التليدية إلى أن وافته المنية بها :
أما عبد الحفيظ ذلك الجبار فإنه لما تغلب على أخيه وأبعده عن ملكه وصار الأمر بيده وبايعه الكافة من أهل المغرب صار يفكر في أمر يصلح به ملكه ويدعم به دعائم عرشه بدل من ساعته تلك الأنظمة وغير تلك القوانين وجعلها على غير ما كانت عليه قبل في أسرع وقت شأن كل ملك جبار ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) فبينما هو كذلك إذ قيل له إن الشريف سيدي محمد بن عبد الكبير قد قام عليك وبايعه عامة أهل البرابر وأكثرية أهل فاس وكل من كان من شيعته، فلا يسعك الآن إلا النهوض إليه وإلا فقد علمت مكانته عند الناس خصوصا أهل البوادي أصحاب إيمان وغيرة وإقدام وصدق ونية وإسلام وله في كل قرية أصحاب وكل مدينة أتباع وكل قبيلة أحباب فلا يسعهم إلا إجابة دعوته وتلبية ندائه، وهكذا أثقل هؤلاء الوشاة أذنا الأمير فأصبح الظن يقينا فجمع أهل الرأي والإصابة من أهل ديوانه فاستفسرهم أمر هذا الرجل وما قيل فيه فأشاروا إليه بقتله وإعدامه فلم يكن بأسرع من أن أمر بإحضاره فجيئ به مغلولة يداه من ورائه يحجل في قيوده فما تم وقوفه بين يدي هذا الجبار المخذول حتى أذاقوه أنواع العذاب وسمائم الذل والاستبداد وأنواع الخزي والإرهاب، فلما شبعوا من عذابه طرحوه للقتل فكان رأسه الشريف تحت أقدامهم ولسانه رضي الله عنه لا يفتر من ذكر الله تعالى، فذبحوه فمات رحمه الله ورضي عنه شهيدا عام 1328 هجرية . فكانت لهذه الوقعة ضجة عظيمة اهتز لها المغرب بأسره بل العالم العربي بأجمعه فلم تبق دار من دور المغرب إلا وبكت عليه بكاءا لا يعهد له مثيل ولا يشهد له تاريخ . والمغرب كله قد حزن لقتل هذا العارف بالله أحد فطاحل الأولياء الصادقين والعلماء المشهورين .. .
ونظرا لمواقف سيدي محمد بن الصديق رحمه الله الصارمة التي لم تكن لتروق أصحاب السلطة المخزنية وأذنابهم فإن لسان الذم والقذف لم يخطئ شخصه الكريم، فقد لمز بالخيانة والتعامل مع الاستعمار مع أنه كان له يد في حركة التحرير الريفية التي قادها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله .
وهذا رفيق درب هذا الأخير السيد عبد الكريم اللوه يدلي بشهادته في هذا المجال ليبين للناس كافة أن ما ينسب إلى الشيخ سيدي محمد بن الصديق من تهم باطلة مكشوفة محاولة للنيل من تاريخ المقاومة ليس إلا وضرب لتراث رجل حافل بالتضحيات الجسيمة في سبيل نصرة الدين وحماية الوطن .
فقد قال : شارك عمليا في الحركة حينا حيث كان يأمر أتباعه بالجهاد معي في حركتي بالقبائل الجبلية ضد الإسبان كما كان يكاتب الشرفاء من أبناء عمومته في قبيلة بني سعيد الغمارية وفي قبيلة بني مصور ليكونوا يدا واحدة معنا في هذه الحركة التحريرية التي يطلق عليها اسم الحرف الريفية الإسبانية، وبدد بذلك جميع الشكوك التي كانت تحوم حوله في معاملاته مع الإسبانيين . وكنت الوحيد الذي عرف فيه هذا الإخلاص حسبما أعتقد هـ .
يكفي أن السيد محمد المجاهد الأنجري وهو أحد مريدي سيدي محمد بن الصديق رفقة مجموعة من أتباع المدرسة الصديقية هاجموا المراكز الإسبانية وقاموا بقطع الطريق بين سبتة وتطوان كما حاصروا مركز القصر الصغير الموجود بين طنجة وسبتة على ساحل البحر وطوقوه من كل جهة فاستسلم جميع الحامية من الجيش الإسباني بعد أيام من الحصار فكان العدد الذي نجا من الموت من أسرى المسلمين المغاربة 42 أسيرا قدم بهم إلى مركز الجهاد في قرية الرملة .
لكننا نجد أن التاريخ المعاصر لا يذكر هذه المعلمة كأحد المقاومين الباسلين للاستعمار وإن ذكر في صفحات من صفحات التاريخ الرسمي فيذكر على أنه خائن متعامل مع الأجانب ومتعاون معهم . وما هو إلا الحقد يملأ صدور أدعياء العلم في زمانه الذين لم يكونوا ليرتاحوا لآرائه السياسية وفتاواه الفقهية التي تأتي على غير مرغوبهم وهواهم .
وبعدما تقلد هؤلاء منذ عهد الاستقلال مناصب الإدارة والقرار والتعليم نالوا من الأسرة الكتانية ومن الأسرة الصديقية ومن كل الأسر العلمية الصوفية التي حافظت على روح السلوك وجوهر الدين وأساس العلم والتربية . والورع فيهم من أسدل الستار حين كتابته التاريخية على هذه الشخصية العظيمة وغيرها من رجالات التصوف والعلم الشريف .
يلخص لنا صديقنا الأستاذ المرحوم سيدي لحسن بن أحمد الأنجري رضي الله عنه في مخطوطه الحلل الودية في المآثر الصديقية هذا التاريخ الحافل فيقول :
وبقتل هذا العارف الكتاني زاد ما كان لشيخنا من البغض لهذه الدولة العلوية منذ كانت خصوصا هؤلاء الذين كان معاصرا لهم وأخص منهم هذا الجبار العنيد عبد الحفيظ الذي تولى قتل هذا الشريف بغير هدى من الله والله ولي الصالحين .. وقد كان يبدي تسخطه على هذه الدولة يوم قراءته بالجامع الكبير على مرأى ومسمع من الناس أجمعين وفيهم من كان حريصا على تبليغ أخباره رضي الله عنه إلى الحكام الأجانب بكل سرعة ودقة فلا يبالي، بل كان يبالغ إذا تعرض لهؤلاء الحكام مغربيين كانوا أو أجانب بالتقريع عليهم مبالغة كان يهتز المغرب دونها خصوصا وأن فرنسا يومئذ كانت حديثة عهد بدخولها المغرب فكانت تثق بكل ما قيل لها في شأن كل ملك من ملوكها العلوية عاملة لذلك جميع الوسائل الإرهابية بل والإعدامية أيضا خوفا من سلب إرادتها من المغرب .. ومع هذا الاحتراس العجيب والاحتياط القوي كان رحمه الله لا يعبأ بذلك كله ولا يلتفت إلى الوراء إذا عزم على أمره وقدم عليه .. وقد شوهد له بذلك في عدة مناسبات يوم دراسته بهذا الجامع . وفرنسا لم تكن تخاف من أحد ما كانت تخاف من الشيخ بن الصديق رحمه الله إذ كانت تهابه مهابة عظيمة حتى إن خروجه من داره لتعده من الأمور التي لا ينبغي لها التهاون بمثلها، واللوازم التي كانت تتخذ لديها جميع الاحتياطات إذ كانت تعلم بخروجه جميع المراكز العسكرية والبوليسية أن يكونوا على بال إذا مر بهم الشيخ بن الصديق أن يعلموها بذلك كيف ما كان الحال ولا يهدأ لها بال حتى يقال لها إن الشريف رجع إلى محله، إذ كان خروجه صعبا لديها، وكم مرة أرادت أن تمنعه من الخروج، مرة في خروجه إلى مصر لما دعي إلى مؤتمر الخلافة، ومرة بل مرات إلى غمارة ليصل أبويه، ومرة إلى الحج في تأدية فريضته .. رغم كونها كانت تمنعه من إعطائه جواز السفر، ومنذ كان رحمه الله لم يتخذ معه هذا الجواز ولا تصور أبدا، وقد خرج إلى عدة أقاليم كمصر والشام واليمن والعراق والحجاز وأرض الحبشة ولم يصحب معه شيئا من هذا، بل كان إذا أراد السفر أعلمها قبل شروعه في سفره بيوم أو يومين، فاليوم الذي أراد أن يشرع في مراده لم يمنعه شيء من تلك التهديدات التي كانت تهدده بها وقت خروجه بل يترك ذلك وراءه ظهريا ويتقدم إلى مراده حيث شاء .. ولما أصدرت قانون الضرائب والجبايات على تلك الأبنية وأهل التجارة وغيرهما في هذه البلدة قام رحمه الله وحده وأظهر تسخطه نحو هذا المشروع الخبيث الذي هو أول مشروع قبله أهل هذا البلد بكل ترحيب قامت وعملت لذلك مجلسا دوليا للنظر في أمر الشيخ ابن الصديق وموقفه في وجه الجميع وعدم الرضى بهذه المشروعات المتفق عليها فيما بينهم وتجاذبوا الحديث في مسألة الشيخ وتباحثوا فيها بحثا دقيقا خرج بهم إلى أن تفاوضوا جميعا أن لا يكلموه بشيء، إلا أن فرنسا من مكرها وخبث سياستها كانت تحب أن تباحثه إلى أن يصارحها بالمنع في هذه المسألة .. فإنه رحمه الله لو تبعه أهل طنجة ما كانوا ليقعوا في شيء من هذه المشروعات أصلا ولكن لما لم يجد في طريقه معينا على دفعها عن أهل البلد رجع وأبى في وحدته كل الإباء أن لا يؤدي ضربة ولا غيرها من القوانين الأجنبية بل ولا قبلها أيضا حتى لبى دعوة ربه رحمه الله .. ولما رأت فرنسا تصميمه على هذا الإباء عملت لذلك ظهيرا سلطانيا ونسبته إليه وأرسلته إلى ابن الصديق ليكون من الذين عفي عنهم من هذه التأدية خوفا من أن يرغب الناس عنها اقتداء بهذا الشيخ العظيم رحمه الله .. وهذه عادتها معه، فمنذ حل بهذا البلد وهي تسايره مسايرة عنيفة فما نجحت بغرضها فيه ولا فرحت بمطلوبها منه إلى أن أخذه الله طيبا طاهرا محفوظا بعنايته .. ولما مات رحمه الله فرحت لذلك فرحا شديدا بما لا مزيد عليه ظنا منها أن الجو قد خلا لها، فما كاد أن يتم فرحها حتى قيل لها إن الشيخ بن الصديق خلف أولادا كلهم على ذلك المنوال وأشدهم بأسا هو ولده الأكبر السيد أحمد فزاد غضبها وانقلب فرحها غيظا وأبدل نكاية خصوصا وقد شاهدت ذلك منه عيانا بعد أبيه بقليل من الأيام.. هـ.
إنه تاريخ عالم طنجة الذي يرجع إليه الفضل بعد الله سبحانه في النهضة العلمية المبرورة التي عرفتها المدينة على وجه الخصوص ومنطقة شمال المغرب على وجه العموم . نهضة عمت حتى خارج المغرب على يد ابنه الأكبر الحافظ سيدي أحمد رحمه الله .