[align=right]الأزيــاء والأوانــي
إن درجة تحضّر الإنسان –ماديًا- تتجلى في ملبسه ومأكله ومسكنه. والمظهر العام للعائلة كان تقريبا موحدا في اللباس وفي مظاهر الحياة الأخرى. إلا أنه كان هناك فرق في نوعية اللباس والفراش وقيمتهما المادية. فبالنسبة للباس كان لكل مستوى نوعيته، وكذلك المفروشات. وأطباق المأكولات منها ما هو عادي، ومنها ما هو خاص بالأعياد والمناسبات. كما أن الأواني كانت تختلف من مستوى لآخر، رغم أنّ شكلها يكون موحدا في الغالب. فالأواني المنزلية الممتازة والأثواب الرفيعة كانت تستورد من الخارج، وخاصة من الصين وفرنسا وإنكلترا. وكان التجار الفاسيون يسافرون إلى تلك البلدان ليستوردوا سلعهم. ومنهم من كانت ترافقهم زوجاتهم عندما تطول مدة الإقامة بالخارج. ومنهم من ازداد أبناؤهم بتلك الدول. ومن أرقى الأثواب والأواني التي كانت البيوت تتفاخر بها ثوب "الملف" الفرنسي والأنجليزي، والأثواب النسوية الحريرية الفرنسية المجلوبة من مدينة ليون (Lyon) ومن الصين والهند، وأواني "البلاّر" (البلّور) الفرنسي Saint Louis))، وأواني الفخار من نوع "الطوس" الصيني، وأواني الشاي والقهوة الأنجليزية وبابورات روسيا. وكانت أواني معمل رايث (Wright) الأنجليزية أفخر ما كانت تعتز به العائلة، وتفتخر به أمام ضيوفها، مظهرة لهم بذلك فرحها وتقديرها باستقبالهم بتلك الأواني نظرا لجودتها وارتفاع أثمانها. وتعدّ هذه الأواني في وقتنا الحاضر من التحف النفيسة الباهضة الثمن، لأن المعمل الذي كان ينتجها بمدينة منشستر الإنجليزية (Manchester) قد أغلق أبوابه منذ عشرات السنين. وكانت نفس الأواني تصنع بفاس من النحاس والفضة والفخار والزجاج، إلا أنها كانت أقل قيمة وثمنًا من مثيلاتها المستوردة. وقد اشتهر الفخار المغربي بجودته وتنوعه، وكان يشغّل يدًا عاملة مهمة في مدن فاس، مكناس، سلا وآسفي. وقد اشتهرت عائلات في أسفي بصناعتها المتقنة للفخار. ومن بينها عائلة الشريف السرغيني، وعائلة ابن ابراهيم الفخاري. وقد تخرج على يد المعلم المشهور السيد: عمالي، عدد ممن اشتهر اسمهم في ميدان صناعة الفخار الرفيعة والمتقنة، والمزركشة بماء الذهب والألوان الزاهية التقليدية. ومما هو معلوم أن تلك الأواني الفخارية كانت تستعمل لتقديم الأطعمة، كالشواء والبسطيلة والمحنشة وأنواع الكسكس والفواكه. أما أنواع أكلات الدجاج والفراخ واللحوم فكانت تقدم في طواجن فخارية سلاوية توضع فوق صحون نحاسية لتحافظ على سخونتها. ومن بين منتوجات الفخار -زيادة على الأواني المنزلية- الزليج بأنواعه والقرمد. وقد كان لزرهون فخاره الخاص والذي كان يمتاز على أنواع الفخار الأخرى بكونه حافظ على طبيعته البدائية، والتي يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام. وآخر "معلم" اشتهر بهذه الحرفة في الزاوية الإدريسية: الشريف سيدي بوبكر بن الطالب العلوي.
إنّ الكلام عن هذه الأواني يدفعني إلى ذكر الشاي ومكانته في الأوساط المغربية.
الشــاي
يعتبر الشاي عندنا سيد المشروبات على الإطلاق، والأكثر تداولا عند الفقير والغني على حدّ سواء. يشرب الشاي طول النهار، قبل الأكل أو بعده. وهناك أكلات لابد من مصاحبته لها، منها الشواء – الكباب – الكفتة – "الخليع"، الخ...). ومن المعلوم أن تحضير الشاي يتمّ بأوراق الشاي المجففة والسكر والنعناع أساسًا، يضاف إليها الشيبا أو السالما أو هما معًا، وقد يقتصر على الشاي صرفا، وهو أفضل عند أهل الذوق كإخواننا الصحراويين، سكان الساقية الحمراء ووادي الذهب، وخصوصا أبناء عمنا شرفاء الركيبات. ويتطلب تهييئه أثاثًا وأوانيَ خاصة، منها ما هو في متناول الجميع، ومنها ما ثمنه مرتفع، فيبقى استعماله منحصرا في بعض الأوساط الغنية -كما سبق ذكره في هذا الفصل. وكان الشاي يعطر بالعنبر في ليالي الشتاء، حيث يوضع العنبر في آنية فضية خاصة به، تسمى "معلقة العنبر أو العنبرة"، لها غطاء مثقب يمكّن من احتباسه داخلها وتسرّب نكهته إلى البّراد؛ ثم تزال آنية العنبر ويحتفظ به لاستعماله مرات متعددة حتى يدوب تمامًا. ومن المعلوم أن العنبر يزيد للشاي نكهة خاصة، كما أنه يدفئ الذات ويريحها وينشط الفكر. ونظرًا لانتشار هذا المشروب في جميع المناطق المغربية فقد خصه الأدباء بكتابات عديدة نثرًا وشعرًا. ولقد وقفتُ على شرح أرجوزة [10] حول الشاي وآدابه و"إقامته" (أي تحضيره) وما يحتاج إليه. ومما جاء في الأرجوزة :
وتتكوّن هذه الأرجوزة من اثنين وأربعين بيتا، يصف فيها صاحبها الفقيه: عبد السلام الأزموري جلسة شاي بأسلوب بديع. وقد خللها الشارح بأشعار وفوائد رائعة. ولا تكمل جلسة الشاي في وسطنا إلا بإحضار المبخرة لحرق العود القماري لتعبق رائحته الطيبة، وصينيةِ المراش لتعطير الجلاّس. وكان ماء الزهر يستعمل في الشتاء، وماء الورد في الصيف. ويضاف إلى هذا كله أنواع الحلويات وخاصة كعب الغزال والغريّبة. ولتهييئ الشاي عاداته وتقاليده وجوّه الخاص، مثل ما يحفه به أصحابه الأصليون سكان الصين من طقوس وأدبيات يحتاج شرحها وتفصيلها إلى مؤلف خاص. ومن بين الطرائف التي حكاها الدكتور عبد الفتاح الزنيفي [12] في الموضوع أنّ شرب الأتاي يستحب فيه أن يتوفر على ثلاث حاءات: وفسرها بحلاوة المشروب، وحماوته، وحرورته. وقد زاد صهرنا مولاي إدريس، حفيد العلامة سيدي الفضيل، الحاء الرابعة بأنه حلال.
الأزياء والحلي لدى المرأة
كان لرجال العائلة الشبيهية ونسائها لباس خاص، لا يختلف عن لباس العائلات الفاسية والمكناسية. فبالنسبة للنساء كن يرتدين التشامير –وهو من ثوب أبيض أو مزخرف بالألوان الزاهية- ثم القفطان الذي كان يصنع من ثوب "الملْف" أو "شاركة" [13]، ثم "الدفين" وهو من ثوب رهيف، لونه موحد أو مزركش. وتلبس المرأة سروالا بألوان زاهية. وكانت النساء يتفنّنّ في خياطة لباسهن بأيديهن، مستعملات الخيوط الحريرية أو المذهبة. وكانت النساء يستعملن "الخمال" في أوقات العمل لرفع أكمامهن إلى الأعلى. و"الخمال" عبارة عن مجدول أي خيط عادي أو حريري مقوى ومفتول، طوله متر ونيّف، يعقد من رأسيه، وتمرره المرأة على قفاها وتدخل يديها فيه، وتتبث به أكمامها إلى الأعلى.
أما الحلي فكانت النساء يتزينّ "بخيط الريح" الذي يوضع فوق الجبين، و"الحلقات" في الأذنين، والتاج فوق الرأس، والشوكة في عنق الدفين أو صدره، و"مدجّة" الجواهر في العنق، و"الدبالج" (الأساور) في الأيدي، والخواتم في أصابع اليد. وكان حزامهن عبارة عن "مضمة" حريرية بزيمها من فضة، أو من ذهب في بعض الأحيان. و قد تكون المضمة من ذهب خالص أو من فضة. وتضع المرأة في رجلها خلخالا من ذهب أو فضة، وتنتعل بلغة عادية من جلد ملون، أو شربيلاً مطرزًا بالصقلي أو الحرير. وكانت النساء تسترن شعرهن "بالسّـبْنية" الحريرية المزركشة الألوان؛ ويضعن عصابة في مقدمة الرأس لتثبيت السبنية عليه. وعندما تخرج المرأة من بيتها تلتحف "بالحايك" الذي كان يصنع من ثوب صوفي أبيض أو تتخلله خطوط سوداء، تلفّه المرأة حول جسدها، وتضع نقابا يحجب وجهها إلا العينين.
الزيّ الرجـالي
أما الرجال فكان لباسهم على الشكل الآتي :
كان الرجال يرتدون "التّشامير" (وهو قميص طويل أبيض)، والقفطان من مَلْف ملون خافت، أو قَشابة من صوف بالنسبة للفقراء، ثم "فرَجية" من مرزاية (وهو ثوب شفاف أبيض) للميسورين. أما الحزام فكان عبارة عن مضمة من حرير أو من جلد، أو من ثوب مقوى بالنسبة لعامة الناس. ويكتمل لباس الرجال بارتداء "جلابة" خفيفة بيضاء، وفوقها جلابة غليظة ملونة في الأيام الباردة. أما في وقت الحر فيكتفي الرجال بالتشامير والجلابة الخفيفة البيضاء أو في لون آخر حسب ذوق الرجل. كما يرتدي الرجل سروالا من ثوب خفيف في الصيف، ومن "شاركة" في الشتاء، وينتعل بلغة صفراء من الجلد، وجوارب من صوف أو خيط. كما يعتمّ الرجال -حسب رتبهم الاجتماعية- إما "بالشد والشاشية" بالنسبة لرجال المخزن والعلماء، أو بالطربوش الفاسي الأحمر، أو طربوش بدون شوشة ملوّن حسب رغبة المستعمل والمنتشر استعماله بمكناس وفي أوساط الحرفيين عامة. وفي غالب الأحيان يغطى الطربوش بقُبّ الجلابة التحتية، ويبقى قُبّ الجلابة الفوقية منسدلاً على الظهر إلا في حالة المطر فيغطي به رأسه. أما فقراء العائلة فكان لهم نفس اللباس، إلا أن الأثواب المستعملة تكون من الصوف المصنع محليا بالزاوية. وقد كانت هذه الصناعة مزدهرة وتشغل عشرات من الرجال والشبان والنساء اللاتي كن يهيئن خيوط الصوف بالتقنيات القديمة بمختلف مراحلها الضرورية.
ويستعمل الثوب الصوفي كذلك من طرف الميسورين، نظرا لجودته ودفئه وتنوع حياكته وفق فصول السنة. وأما الأثواب الرخيصة الثمن فكانت متوفرة بكثرة وفي متناول الجميع. ويضع الفقراء طواقي صوفية أو خيطية، أو "رُزّة" (أي العمامة) من ثوب فوق رؤوسهم. وكان يعاب على من ترك رأسه عاريا، إلا في حالات خاصة لدى بعض المتصوفة الذين لا يغطون رؤوسهم، ومنهم من يحلق شعر رأسه ويترك اللحية، ومنهم من لا يحلق رأسه فينساب شعر رأسه وتسمى الوفرة. أما أطفال العوام فكانوا يحتفظون "بالقرن" [14] في أعلى الصدغين الأيمن والأيسر، بالإضافة إلى عُرف (وهو عبارة عن مساحة مستطيلة من الشعر القصير في وسط الرأس، يمتدّ من فوق الجبهة إلى مؤخرة الجمجمة)، ويحلق ما تبقى من شعر الرأس. ثم يُحلق الرأس بأكمله عند البلوغ. أما أبناء العائلة الشبيهية فكانوا يحتفظون "بالقُطاية"، وهي عبارة عن ظفيرة من الشعر في وسط الرأس، ويحلقون ما تبقى منه.
وأستحضر هنا الدور الكبير الذي كان يلعبه الحلاق في وسطنا الاجتماعي. فأدواره ومهماته كانت تطغى على حياة الأفراد. فزيادة على الحلاقة، كان "يحجم" لبعض الناس قصد التخفيف من الضغط الدموي والحفاظ على صحة جيدة كما جاء في السنة النبوية. وكانت هذه الطريقة تريح عددا من الناس رجالا ونساء. وكان الحلاق يقوم بختان الأطفال، واقتلاع الأسنان، ويهيئ "الشَّـدّ" الخاص بالشخصيات (وهو طربوش تلفّه عمامة على هيئة مخصوصة)، لأنه كان يتوفر في دكانه على القالب النحاسي لتلك العملية. كما أن حضوره في المأدبات كان من أوجب الواجبات، نظرا لخبرته في تهيئ الموائد وتصفيف الطواجين والميادي أمام المدعوين لتقوية شهيتهم، وما إلى ذلك مما يتطلّبه تنظيم الحفلات حتى تمر في أحسن الظروف وأكملها، طبقًا لتقاليد الضيافة المغربية الأصيلة. وفي البوادي كان الحجام يقوم بوشم الرجال و النساء على الطريقة التقليدية المعروفة.
وعندما انضمّت الجزائر إلى الدولة الإسلامية العثمانية وبدأ المغاربة يتعاملون مع الدول الأوروبية -ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر للميلاد- ظهر نوع من الألبسة يسمى باجادور [15] انتشر في بعض الأوساط بمناسبة الختان والزفاف، فصار لباسا رسميا للمختون والعريس. كان السلهام لباس العلماء والفقهاء والوجهاء، وكان من ثوب "السوسدي" الأبيض الرفيع في الصيف، أو من ملف أسود أو ملون في الشتاء. أما في الرسميات فيكون أبيض. وكان القضاة وخطباء الأعياد والجمعة وعلية القوم يلتحفون بالكساء الأبيض من ثوب "البزيوي" المنسوج المرتفع ثمنه.
أما الأطفال فلم تكن ألبستهم تختلف عن الكبار، إلا أنهم لا يلبسون القفطان والفرجية، بل البدعية والدراعية وسروالاً، وينتعلون البلغة، ويغطون رأسهم بقب الجلباب أو الطاقية، أو الطربوش عند بلوغهم.
يتبع . . . .
[/align]
[align=center]المصدر:
http://chbihi-idrissi.ifrance.com/quisontchbihi.htm[/align]