أقول لمن يخوض بعقله في ذات المولى جل و علا : إنك لتنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، و تحكم بنفي الحركة ، ثم بالتجربة و المشاهدة - بعد ساعة - تعرف أنه متحرك ، و أنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة ، بل بالتدريج ذرة ، ذرة ، حتى لم يكن له حالة وقوف . و تنظر إلى الكوكب ، فتراه صغيراً في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار . هذا ، و أمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس ، بأحكامه و يكذبه حاكم العقل و يخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته ، فبطلت الثقة بالمحسوسات ، فبم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات و قد كنت واثقاً بها ، فجاء حاكم العقل فكذبها ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقها ، فلعل وراء إدراك العقلِ حاكماً آخر ، إذا تجلى كَذَّبَ العقلَ في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، و عدمُ تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالة ،،، أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، و تتخيل أحوالاً ، و تعتقد لها ثباتاً ، و استقراراً ، و لا تشكل في تلك الحالة فيها ، و ثم تستيقظ فتعلم : أنه لم يكن لجميع متخيلاتك و معتقداتك أصل و طائل . فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك ، بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها ، لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، و تكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها فإذا وردت تلك الحالة ، تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها . و لعل تلك الحالة هي الموت ، إذ روي أن الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهُوا . فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة ، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن و يقال له عند ذلك : ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) [ق : 22] . [المنقذ من الضلال 1/9 ـ 10] بتصرف
و أقول ثانيا : لا خفاء في أن الله تعالى ربط بين الأسباب و مسبباتها في علاقة دائبة مطردة لا تتخلف حتى ليكاد يعتقد الإنسان فاعليتها من ذاتها ـ و معاذ الله ـ و إنما الغرض الأكبر من ذلك التعرف على الله تعالى إذا علمت أن لا فاعلية لها من ذاتها ، فَتُسْقِطُ حينئذ جميعَ تلك الأسباب التي كنت تتعلق بها لتتصلَ بسبب الأسباب الذي به تقوم سائر الأسباب ، فعدم التفاتك إلى الأسباب في الحقيقة إنما هو التفات منك إلى السبب الحقيقي ، لأنها تابعة له ، و كذلك حال العلم ، متعك الله تعالى بالعلم الذي هو في الحقيقة قطرة صغيرة من بحر فيوضات علمه جل و علا ، و لكن أخبرك و حذرك أن الاعتماد على علمك من جنس اعتمادك على الأسباب ، و أن مجاله منحصر فيما أحبه لك ، لا فيما لا قبل به لك ، و منه صفات الخالق جل و علا ، حيث نهانا الله تعالى عن الخوض فيها كيف و الخوض فيها من قبيل القيل في المستحيل ، لأن العقل إنما مجاله الأشياء ، و ليس مجاله ما ليس كالأشياء ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى : 11] فالعقل لبد و أن يقر بأن مجاله ينتهي إلى ما هنالك ، و أنه كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك .