السلام عليكم
ارتأيت أن اذكر ترجمة يحي ابن خلدون حتى يعرف القارئ الكريم جوانب قد تساعد على فهم أسلوب كتابه البغية و مصداقية كلامه و محصوله العلمي التاريخي و الديني فأذكر مقتطفات مما ذكره الدكتور مزاحم علاوي الشاهري (قسم التاريخ ـ كلية التربية ـ بغداد) لإلمامها بكل الأمور رغم طولها كما أنها احتوت شرحا لكتاب البغية.
حياته:
بالرغم من أن يحيى بن محمد بن محمد بن الحسن بن خلدون المكنى بأبي زكريا قد تردد ذكره لدى عدد من المؤرخين المعاصرين له من أمثال ابن الخطيب([1]) وابن الأحمر([2]) وبعضهم ممن جاء بعده كالمقري([3]) والتنسي([4])، فإننا لا نعلم إلا النزر اليسير عن حياته.
فمن الراجح أنه ولد في تونس حيث استقر والده وجده من قبل، وعاش في ظل والده الذي أمضى حياته بعيداً عن السياسة منصرفاً لدراسة العلم وأعمال البر حتى وفاته سنة 750 هـ/ 1349 م ([5]).
أما تاريخ ولادته، فإن الغموض الذي يحيط بحياته قد انسحب على سنة ولادته. غير أن الذين ذكروها، حصروها بين سنتين (733 و734 هـ/ 1332 و1333 م) ([6]).
إن حياة يحيى بن خلدون تكاد تكون مجهولة، إذ لم يصلنا من أخبارها إلا القليل. ولولا ما ذكره عن نفسه، وما ورد على لسان أخيه، لأصبح من العسير علينا تتبع مسار حياته التي استغرقت زهاء نصف قرن. على أية حال، فإن الأجواء الثقافية والعلمية التي سادت تونس إبان العهد الحفصي في النصف الأول من القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي([7]) قد صقلته وأثرت ذاكرته بالعلوم المختلفة. وإن من المؤكد أن يحيى بن خلدون قد تتلمذ على هؤلاء الشيوخ الذين استقروا في إبان ضمها للدولة المرينية في عهد السلطان أبي الحسن المريني سنة 748 هـ/ 1347 م([8]).
إذ كان من عادة السلطان المذكور اصطحاب علماء دولته البارزين في حله وترحاله. وقد بين عبد الرحمن بن خلدون في »رحلتـ «ـه أسماء العلماء الذين تتلمذ عليهم، وذكر منهم عبد الله بن يوسف بن رضوان (ت 783 هـ/ 1381 م) الذي اشتهر في العربية والأدب([9])، وأبا عبد الله محمد بن النجار (ت 750 هـ/ 1349 م) وهو من أهل تلمسان وكان إماماً في علم النجامة وأحكامها([10])، والخطيب ابن مرزوق التلمساني (781 هـ/ 1379 م) ([11])، ومحمد بن عبد الله بن عبد النور (ت 749 هـ/ 1348 م) وكان مشتهراً في علوم الفقه، والفقيه محمد بن الصباغ (مات غريقاً سنة 749 هـ/ 1348 م) ([12]) وقال عنه إنه »كان مبرزاً في المنقول والمعقول وعارفاً بالحديث ورجاله وإماماً في معرفة كتاب "الموطأ" وإقرائه«([13])، ومحمد بن علي بن سليمان السطي (مات غريقاً سنة 749 هـ/ 1348 م)([14]) قيل إنه كان في الفقه لا يجارى حفظاً وفهماً، وأبناء الإمام أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى الذين وصفهم ابن خلدون بقوله: »هم سباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن اصطفاهم لصحبته من بين أهل المغرب«([15])، ومحمد بن إبراهيم الآبلي (المتوفى 756 هـ/ 1356 م) شيخ العلوم العقلية([16])، وأحمد الزواوي إمام المقرئين بالمغرب([17]).
وتجدر الإشارة إلى أن يحيى بن خلدون ذكر بعضهم بصفة »شيخنا«، ومنهم أبو عبد الله الآبلي الذي ذكره بقوله: »فيما ذكره شيخنا أبو عبد الله الآبلي رحمه الله«([18])؛ أما ترجمته التي وردت في "البغية"، فقد وصفته بأنه »فاق أهل زمانه في العلوم العقلية« ([19])، والفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني (ت 771 هـ/ 1369 م) ([20]) القائل بحقه »شيخنا أحد رجال الكمال علماً وديناً لا يغرب عن علمه فن عقلي إلا وقد أحاط به« ([21]).
ويبدو أن الدافع الذي أدى به إلى الاقتصار على إيراد ذكر بعض العلماء دون الآخرين، يرجع إلى أن منهجه يقتضي الإحاطة بالعلماء الذين عاشوا بتلمسان. وأما من كان سواهم من بلاد أخرى، فمن غير المعقول أن يأتي على ذكرهم.
على أية حال، فقد تلقى دراسته على عدد آخر من العلماء. ففي مجال اللغة والأدب، درس على يد الشيخ منصور بن علي بن عبد الله الزواوي الذي نعته بـ »الحذق بالفتيا مع الخط الحسن والنظام الرائق والكتابة النبيلة« ([22])، والفقيه محمد بن إبراهيم البلفيق الذي ترجم له في مولفه، مع إيراد قصيدة له مطلعها:
هل من مجـيب دعـوة المسـتـنـجـــد
أم من مجـير للغــريب المــفــــرد([23])
كما تظهر مكانته الأدبية الرفيعة من ثنايا الخطاب الذي وجهه ابن الخطيب إلى يحيى بن خلدون والذي يصف براعته بقوله: »... إن البيان يا آل خلدون سكن مثواكم دار الخلود، وقدح زنداً غير صلود، واستأثر في محابركم السيالة وقضيب رماحكم الميادة والميالة...«([24]).