[align=center] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين [/align]
أبو الحسن الشاذلي... من عباءته خرجت مناهج الصوفيّة
د. عمار علي حسن
يبرز اسم أبو الحسن الشاذلي في مقدمة صفوف مؤسسي التصوف الحركي الكبار. فشيخنا جاء من المغرب إلى مصر مروراً بتونس، وفي كل مكان حلّ فيه جذب إليه المريدين، وتركهم ليؤسسوا طرقاً لا تزال سائدة، على رغم تعاقب السنين، وتبدل الأماكن، وتوالي الأجيال. بذلك يكون أحد الشخصيات المشهود لها في إثبات أن الصوفية ظاهرة عابرة للحدود والسدود.
هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار المغربي، ولد سنة 395 هـ، وينتمي إلى قبيلة الأخماس الغمارية. قطن مدينة شاذلة، فنسب إليها. تتلمذ منذ نعومة أظافره على يدي أبي محمد عبد السلام بن مشيش، الذي أثر تأثيراً بالغاً في حياته الصوفية والمعرفية، إذ كان له من المقام في المغرب ما للشافعي في مصر، وكان أحد المتمسكين بالكتاب والسنة، العاملين بهما، وهذا ما نستدل عليه من قوله الشهير: «أفضل الأعمال أربعة بعد أربعة: المحبة لله، والرضا بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله. أما الأربعة الأخرى فهي: القيام بفرائض الله، والاجتناب لمحارمه، والصبر عما لا يعني، والورع من كل شيء يلهي».
رحل الشاذلي بعد أن استوت معرفته وأذواقه إلى جبل زغوان في تونس، حيث اعتكف للعبادة، وارتقى منازل عالية في الفكر الصوفي. لكن أبا القاسم بن البراء قاضي الجماعة في تونس دسّ عليه لدى السلطان أبي زكريا الحفصي فأخرجه الأخير من البلاد. وابن البراء كان يعد نفسه الزعيم الديني الأكبر من دون منازع، فلما رأى الناس تلتف حول الشاذلي، الذي لا سند رسمياً لمكانته وموقعه، يقال إنه قد حقد عليه، لا سيما أن أبا الحسن كان إلى جانب تصوفه أحد علماء الفقه والتفسير والحديث، وقال للسلطان: «إنه يدعي الشرف. وقد اجتمع عليه خلق كثير. ويدعي أنه الفاطمي. ويشوش عليك في بلادك». فاستدعاه الحفصي إلى قصره، وطلب من الشيوخ أن يسألوه، فأجابهم باستفاضة أدهشتهم، في العلوم الحدسية والكسبية معاً. وأراد السلطان أن يأمر له بالانصراف، لكن ابن البراء عاجله بالقول: «لئن خرج الشاذلي في هذه الساعة، ليدخلن عليك أهل تونس، ويخرجونك من بين أظهرهم، فإنهم مجتمعون على بابك».
استبقاه السلطان، لكن أحد إخوته كان عاقلاً، وطالما تردد على الشيخ يتبارك به، ويستزيد من علمه، قال له: «ما هذا الأمر الذي أوقعك فيه ابن البراء. أوقعك الله في الهلاك أنت وكل من معك». ثم دخل على الشيخ وراح يسترضيه، ويهدئ من خواطره. فقال له الشيخ الذي كان طيلة هذا الوقت غارقاً في عبادته وتسابيحه: «والله ما يملك أخوك لنفسه نفعاً ولا ضرراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يملكها للغير، كان ذلك في الكتاب مسطوراً».
بعدها عزم الشاذلي على الحج، فأمر أتباعه بتجهيز رحالهم ليتوجهوا إلى المشرق، فقالوا له إن أيام الحج لا تزال بعيدة، فأجابهم: «سنمكث في مصر مدة». وسمع الحفصي باعتزام الشاذلي الرحيل، فأرسل إليه يرجوه في البقاء، لأن الناس علموا أنه منفي، فغضبوا، فرد الشيخ على رسول السلطان: «ما خرجت إلا بنية الحج إن شاء الله تعالى. لكن إذا قضى الله حاجتي أعود إن شاء الله».
جاء الشاذلي إلى الإسكندرية، لكنه وجد أمامه من ينتظره لاعتقاله، بعد أن وصلت أخباره إلى سلطانها. وفرض عليه الأخير الذهاب إلى القاهرة بنفسه، لمقابلة السلطان. وهنا يروي صاحب «درة الأسرار»: «لما وصلنا إلى القاهرة أتينا القلعة، فاستأذن الشاذلي على السلطان. فأدخل على السلطان والأمراء ، فجلس معهم ونحن ننظر إليه. قال له السلطان: «ماذا تقول أيها الشيخ؟»، فأجاب: «جئت أشفع لك في القبائل». فردّ: «اشفع في نفسك. هذا عقد بالشهادة فيك، وجهها بن البراء من تونس بعلامة فيه، ثم ناوله إياه». فقال الشيخ: «أنا وأنت والقبائل في قبضة الله».
وقام الشيخ، فلما مشي قدر 20 خطوة، حرّك الرجال السلطان فلم يتحرك ولم ينطق، فبادروا إلى الشيخ وجعلوا يقبلون يديه، ويرغبونه في الرجوع إليه. فرجع إليه، وحركه بيده، فتحرك، وجعل يستحله، ويرغب منه في الدعاء. ثم كتب إلى الوالي في الإسكندرية، أن يرفع الطلب عن القبائل، ويرد جميع ما أخذه منهم.
خرج الشاذلي وأتباعه إلى الحج، فلما انتهى من أداء الفريضة عاد إلى تونس، فوجد ابن البراء لا يزال متربصاً به. لكنه صبر عليه، ولم يبال بمكائده. وفي هذه الفترة من حياة الشاذلي جاء إليه أبو العباس المرسي، الذي قال الأول في حقه: «ما ردني إلى تونس إلا هذا الشاب». ورحل الشاذلي إلى مصر مجدداً، ليقيم فيها، فخلع عليه السلطان أحد أبراج الإسكندرية، كان يحوي مسجداً، ومساكن للمريدين، ومرابط للبهائم، وفي أعلاها سكن الشيخ وأولاده: شهاب الدين أحمد وأبو الحسن علي، وأبو عبد الله محمد وابنته زينب.
في الإسكندرية حظي الشاذلي بمريدين كثر، وذاع صيته وجاء الناس إليه من شتى أنحاء مصر يقصدونه كقطب صوفي كبير. ومن مقر إقامته كاتب أصدقاءه في تونس يصف لهم حاله فقال: «الكتاب إليكم من الثغر، حرسه الله، ونحن في سوابغ نعم الله نتقلب. وهو بفضله وبوده إلينا يتحبب. قد ألقي علينا وعلى أحبابنا كنفه. وجعلنا عنده فما ألطفه! ندعوه فيلبينا، وبالعطاء قبل السؤال ينادينا. فلله الحمد كثيراً كما ينبغي لوجهه الكريم، وجلاله العظيم. أما الأهل والأولاد والأصهار والأحباب ففي سوابغ نعم الله يتقلبون، وبإحسانه ظاهراً وباطناً مغمورون، نسأل الله المزيد التام العام لكم ولهم أجمعين، وأن ينوب عنا في شكره، إنه أكرم الأكرمين».
يروى أن ابن مشيش لما قابل الشاذلي قال له على وجه الكشف: {مرحباً بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار»، وساق نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له:
{ يا علي ارتحل إلى إفريقيا واسكن فيها بلداً تسمى شاذلة، فإن الله يسميك الشاذلي، وبعد ذلك تنتقل إلى مدينة تونس ويؤتى عليك بها من السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق، وترث فيها القطبانية».
هنا أوضح ابن العماد: «وأخرجوه بجماعته من المغرب وكتبوا إلى نائب الإسكندرية: إنه يقدم عليكم مغربي زنديق وقد أخرجناه من بلدنا فاحذروه. فلما قدم الإسكندرية كان فيها أبو الفتح الواسطي، وهو قطب صوفي كبير، فوقف بظاهرها واستأذنه فقال: طاقية لا تسع رأسين. فمات أبو الفتح في تلك الليلة».
شهادات ورؤى
شهد للشاذلي أهل عصره من المتصوفة الكبار، ومن تلامذته ومريديه، فتلميذه الأشهر الشيخ أبو العباس المرسي قال: «كنت مع الشيخ الشاذلي في القيراون، وكانت ليلة جمعة توافق السابع والعشرين في شهر رمضان، فذهب الشيخ إلى الجامع، وذهبت معه، فلما دخل، وأحرم، رأيت الأولياء يتساقطون عليه، كما يتساقط الذباب على العسل، فلما أصبحنا وخرجنا من الجامع، قال الشيخ: «ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة، وكانت ليلة القدر، وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا علي طهّر ثيابك من الدنس، تحظ بمدد الله في كل نفس. قلت يا رسول الله: وما ثيابي؟ قال: اعلم أن الله قد خلع عليك خمس خلع، خلعة المحبة، وخلعة المعرفة، وخلعة التوحيد، وخلعة الإيمان، وخلعة الإسلام. فمن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن عرف الله، صغر لديه كل شيء، ومن وحد الله لم يشرك به شيئاًً، ومن آمن بالله أمن من كل شيء».
يتبع . . . .